كانت الأم زينب في زهاء التسعين من عمرها . و كانت تتخذ لها عصا متقادمة تتكئ عليها حين تمشي ، و سبحة تذكر الله في حباتها على دأب أهل هذا الوجه من الأرض في الالتزام بطقوس المتصوفة في الذكر و التعبد. و كانت أحفظ أهل قريتها للأخبار ، و أذكرهم للآثار ، و أبرعهم في الطب الشعبي ، و أقدرهم على مداواة المرضى بالأعشاب و الرقى .و كانت السيدة العجوز تحفظ شيئا من القرآن ، و شيئا من الأشعار الصوفية ، و شيئا من الأوراد الصوفية تتلوها عقب كل صلاة فجر.كما كانت تحفظ مقدارا صالحا من نصوص الرقى و التعاويذ. كما كانت شاعرة تقرض القصائد الطوال من الشعر الملحون. و كانت قبل أن يعلو غصن جسمها اليبس تغني في الأعراس ، و تقيم الحفلات الجميلة في كل المناسبات السعيدة بالمحروسة و ضواحيها. فلما غزتها الشيخوخة تحولت من إقامة الأفراح بالغناء ، إلى إقامة الجنائز و الأتراح بالذكر و التزام الطقوس الروحية ، فكانت تقيم الأذكار للنساء ، و تعظهن في المجالس ، و تسرد عليهن الملاحم لمهولة ، و الأساطير الجميلة . و لا سيما ما كان يتمحض لتاريخ الجلولية و قبيلتها و أرومتها و حروبها مع القبائل الأخرى.و هي بذلك لعلها أن تكون هي التي رسمت الصورة النهائية للذاكرة الجماعية لقبيلة بني جلول الكبيرة ...